سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{قُلْ كُلٌّ} أي كلُّ أحدٍ منكم وممن هو على خلافكم {يَعْمَلُ} عمله {على شَاكِلَتِهِ} طريقتِه التي تشاكل حالَه في الهدى والضلالة أو جوهرِ روحِه وأحوالِه التابعة لمزاج بدنِه {فَرَبُّكُمْ} الذي برأكم على هذه الطبائِع المتخالفة {أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} أي أسدُّ طريقاً وأبينُ مِنهاجاً وقد فُسِّرت الشاكلةُ بالطبيعة والعادةِ والدين.
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} الظاهرُ أن السؤالَ كان عن حقيقة الروح الذي هو مدبّرُ البدنِ الإنساني ومبدأُ حياتِه، روي (أن اليهودَ قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهفِ وعن ذي القَرنين وعن الرّوح، فإن أجاب عنها جميعاً أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبيٌّ، فبيّن لهم القصتين وأبْهم أمرَ الروح) وهو مُبْهمٌ في التوراة {قُلِ الروح} أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه {مِنْ أَمْرِ رَبّى} كلمةُ من بيانيةٌ والأمرُ بمعنى الشأنِ والإضافةُ للاختصاص العِلْميِّ لا الإيجاديّ لاشتراك الكلِّ فيه وفيها من تشريف المضافِ ما لا يخفى كما في الإضافة الثانيةِ من تشريف المضافِ إليه، أي هو من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفيةِ التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر.
{وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} لا يمكن تعلّقُه بأمثال ذلك، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك. قالوا: نحن مختصّون بهذا الخطابِ قال عليه الصلاة والسلام: «بل نحن وأنتم». فقالوا: ما أعجبَ شأنَك، ساعةً تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} وساعةً تقول هذا، فنزلت: {وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية، وإنما قالوا ذلك لركاكة عقولِهم فإن الحكمةَ الإنسانيةَ أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقةُ البشريةُ بل ما نيط به المعاشُ والمعادُ وذلك بالإضافة إلى ما لا نهايةَ له من معلوماته سبحانه قليلٌ يُنال به خيرٌ كثيرٌ في نفسه أو بالنسبة إلى الإنسان أو هو من الإبداعيات الكائنةِ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير تحصّلٍ من مادة وتولُّدٍ من أصل كأعضاء الجسدِ حتى يمكن تعريفُه ببعض مباديه، ومآلُه أنه من عالم الأمرِ لا من عالم الخَلق وليس هذا من قَبيل قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فإن ذلك عبارةٌ عن سرعة التكوينِ سواءٌ كان الكائنُ من عالم الأمرِ أو من عالم الخلقِ، وفيه تنبيهٌ على أنه مما لا يحيط بكنهه دائرةُ إدراكِ البشر وإنما الممكن هذا القدرُ الإجماليُّ المندرجُ تحت ما استُثني بقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا علماً قليلاً تستفيدونه من طرُق الحواسِّ فإن تعقّلَ المعارفِ النظرية إنما هو من إحساس الجزئياتِ، ولذلك قيل: من فقد حِسًّا فقد علماً، ولعل أكثر الأشياءِ لا يدركه الحسُّ ولا شيءٌ من أحواله التي يدور عليها معرفةُ ذاتِه، وأما حملُ ما ذكر على السؤال عن قِدَمه وحدوثه وجعلُ الجوابِ إخباراً بحدوثه أي كائنٌ بتكوينه حادثٌ بإحداثه بالأمر التكويني، فمع عدم ملاءمتِه لحال السائلين لا يساعده التعرّضُ لبيان قلةِ علمِهم، فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمُهم حينئذ وقد أُخبر عنه، وقيل: المرادُ بالروح خلقٌ عظيم رُوحاني أعظمُ من المَلَك، وقيل: جبريلُ عليه السلام، وقيل: القرآنُ، ومعنى من أمر ربي من وحيه وكلامِه لا من كلامِ البشر.


{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من القرآن الذي هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ومنبَعٌ للعلوم التي أوتيتَها وثبتّناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه ولولاه لكدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً، وإنما عبّر عنه بالموصول تفخيماً لشأنه ووصفاً له لما بما في حيز الصلة ابتداءً وإعلاماً بحاله من أول الأمرِ وبأنه ليس من قبيل كلامِ المخلوقِ، واللامُ موطئةٌ للقسم ولنذهبن جوابُه النائبُ منابَ جزاءِ الشرطِ، وبذلك حسُنَ حذفُ مفعولِ المشيئةِ، والمرادُ من الذهاب به المحوُ من المصاحف والصدورِ وهو أبلغُ من الإذهاب. عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أن أولَ ما تفقِدون من دينكم الأمانةُ وآخرَ ما تفقِدون الصلاةُ وليُصَلّين قومٌ ولا دينَ لهم، وأن هذا القرآنَ تُصبحون يوماً وما فيكم منه شيءٌ، فقال رجلٌ: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتْناه في مصاحفنا نعلّمه أبناءَنا ويعلمه أبناؤُنا أبناءَهم؟ فقال: يسرى عليه ليلاً فيصبح الناسُ منه فقراءَ تُرفع المصاحفُ وينزَعُ ما في القلوب» {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ} أي بالقرآن {عَلَيْنَا وَكِيلاً} من يتوكل علينا استردادَه مسطوراً محفوظاً.
{إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} فإنها إن نالتْك لعلها تستردّه عليك، ويجوز أن يكون الاستثناءُ منقطِعاً بمعنى ولكنْ رحمةٌ من ربك تركَتْه غيرَ مذهوبٍ به، فيكون امتناناً بإبقائه بعد المنة بتنزيله وترغيباً في المحافظه على أداء حقوقِه وتحذيراً من أن لا يُقدرَ قدرُه الجليلُ ويفرَّط في القيام بشكره وهو أجلُّ النعم وأعظمُها {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} كإرسالك وإنزالِ الكتابِ عليك وإبقائِه في حفظك وغير ذلك.
{قُلْ} للذين لا يعرِفون جلالةَ قدرِ التنزيل ولا يفهمون فخامةَ شأنه الجليل، بل يزعُمون أنه من كلام البشر {لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} أي اتفقوا {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان} المنعوتِ بما لا تدركه العقولُ من النعوت الجليلةِ في البلاغة وحسنِ النظم وكمالِ المعنى. وتخصيصُ الثقلين بالذكر لأن المنكِرَ لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرَهما قادرٌ على المعارضة {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أوثر الإظهارُ على إيراد الضميرِ الراجع إلى المِثْل المذكورِ احترازاً عن أن يُتوَّهم أن له مِثْلاً معيناً وإيذاناً بأن المرادَ نفيُ الإتيانِ بمثْلٍ ما، أي لا يأتون بكلام مماثلٍ له فيما ذكر من الصفات البديعةِ وفيهم العربُ العاربة أربابُ البراعةِ والبيانِ، وهو جوابٌ للقسم الذي ينبىء عنه اللامُ الموطئةُ وسادٌّ مسدَّ جزاءِ الشرطِ ولولاها لكان جواباً له بغير جزمٍ لكون الشرط ماضياً كما في قول زهير:
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألة *** يقول لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ
وحيث كان المرادُ بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآنِ مطلقَ الاتفاقِ على ذلك سواءٌ كان التصدِّي للمعارضة من كل واحدٍ منهم على الانفراد، أو من المجموع بأن يتألّبوا على تلفيق كلامٍ واحد بتلاحق الأفكارِ وتعاضُدِ الأنظار قيل: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي في تحقيق ما يتوخَّوْنه من الإتيان بمثله وهو عطفٌ على مقدّر، أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضُهم ظهيراً لبعض ولو كان الخ، وقد حُذف المعطوفُ عليه حذفاً مطّرداً لدِلالة المعطوفِ عليه دِلالةً واضحةً فإن الإتيانَ بمثله انتفى عند التظاهرِ فلأَنْ ينتفيَ عند عدِمه أولى، وعلى هذه النكتةِ يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غيرَ مرة، ومحلُّه النصبُ على الحالية حسبما عُطف عليه، أي لا يأتون بمثله على كل حال مفروضٍ ولو في هذه الحال المنافيةِ لعدم الإتيانِ به فضلاً عن غيرها وفيه حسمٌ لأطماعهم الفارغةِ في رَوْم تبديل بعض آياتِه ببعض، ولا مساغَ لكون الآية تقريراً لما قبلها من قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} كما قيل، لكن لا لِما قيل من أن الإتيانَ بمثله أصعبُ من استرداد عينِه، ونفيُ الشيء إنما يقرره نفيُ ما دونه لا نفيُ ما فوقه فإن أصعبيةَ الاستردادِ بغير أمرِه تعالى من الإتيان بمثله مما لا شُبهةَ فيه بل لأن الجملةَ القسميةَ ليست مَسوقةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل إلى المكابرين من قِبَله عليه السلام.


{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} كررنا وردّدنا على أنحاءٍ مختلفةٍ توجب زيادةَ تقريرٍ وبيان ووَكادةِ رسوخٍ واطمئنان {لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان} المنعوتِ بما ذكر من النعوت الفاضلة {مِن كُلّ مَثَلٍ} من كل معنى بديعٍ هو الحسنُ والغرابةُ واستجلابُ النفسِ كالمَثَل ليتلقَّوْه بالقبول {فأبى أَكْثَرُ الناس} أوثر الإظهارُ على الإضمار تأكيداً وتوضيحاً {إِلاَّ كُفُورًا} أي إلا جُحوداً، وإنما صح الاستثناءُ من الموجبُ مع أنه لا يصِح ضربتُ إلا زيداً لأنه متأوّل بالنفي كأنه قيل: ما قَبِل أكثرُهم إلا كفوراً، وفيه من المبالغة ما ليس في أبَوْا الإيمانَ لأن فيه دِلالةً على أنهم لم يرضَوا بخَصلة سوى الكفورِ من الإيمان والتوقفِ في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبةَ الإباءِ.
{وَقَالُواْ} عند ظهور عجزهم ووضوحِ مغلوبيّتِهم بالإعجاز التنزيليّ وغيرِه من المعجزات الباهرةِ متعللين بما لا يمكن في العادة وجودُه ولا تقتضي الحكمةُ وقوعَه من الأمور كما هو دَيدَنُ المبهوتِ المحجوج {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ} وقرئ بالتشديد {لَنَا مِنَ الأرض} أرضِ مكة {يَنْبُوعًا} عيناً لا ينضُب ماؤُها، يفعولٌ من نبع الماءُ كيعْبوب من عبّ الماءَ إذا زحَر.
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} أي بستانٌ تسترُ أشجارُه ما تحتها من العَرْصة {مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار} أي تجريها بقوة {خلالها تَفْجِيرًا} كثيراً، والمرادُ إما إجراءُ الأنهارِ خلالها عند سقْيها أو إدامةُ إجرائِها كما ينبىء عنه الفاءُ لا ابتداؤه {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} جمع كِسْفة كقطعة وقِطَع لفظاً ومعنى، وقرئ بالسكون كسِدْرة وسِدْر وهي حالٌ من السماء والكاف في كما في محل النصبِ على أنه صفةُ مصدرٍ محذوف أي إسقاطاً مماثلاً لما زعمتَ يعنُون بذلك قولَه تعالى: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء}.
{أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً} أي مقابلاً كالعشير والمعاشِر أو كفيلاً يشهد بصِحة ما تدعيه، وهو حالٌ من الجلالة وحالُ الملائكةِ محذوفةٌ لدِلالتها عليها أي والملائكةِ قُبَلأَ كما حذف الخبرُ في قوله:
فإني وقيّارٌ بها لغريب ***
أو جماعةً فيكون حالاً من الملائكة.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15